عرض مشاركة واحدة
 
 
  #1  
قديم 30-04-2012, 01:28 PM محمد الحاقان غير متواجد حالياً
 
 
أديب وكاتب مميز
 


افتراضي كيف انتصرت الجماعات الإسلامية !

ثمة روح لكلِّ مرحلة تشكِّل المزاج العام لمنطقة معيّنة يصعب توقُّعها.. الحركات المدنية التي هي أقرب لليبرالية زرعت الثورة في تونس ومصر وليبيا، ولكن حصدتها الجماعات الإسلامية التي هي أبعد عن الليبرالية. هذا الحصاد هو مجرّد بداية مرحلة.. فكيف تسنّى للجماعات الإسلامية قطف البداية؟

في بداية عودة الحياة الطبيعية بعد الحرب العالمية الثانية، هل كان أحد يتصوّر هزيمة ونستون تشرشل الذي حقق النصر لبريطانيا، وقاد مواكب المحتفلين في شوارع لندن، ثم بعد شهرين فقط يخسر هو وحزبه الانتخابات، بينما يحصد الانتخابات حزب آخر! كيف انهزم تشرشل؟ في استطلاعات للرأي، سئل بعض المحايدين آنذاك الذين لم ينتخبوا تشرشل، لماذا؟ قالوا مللنا من الحرب، نريد رجل سلم. وفي استطلاعات بمصر قبل أسابيع، سئل بعض المحايدين الذين صوّتوا للإسلاميين، لماذا؟ قالوا نريد من يخاف الله، مللنا من الفاسدين!

المسألة أبعد من الملل.. إنها تبدأ بمهارة المرشحين الجدد على إغراء الناخبين بما يشتهون. إنها الشعبوية.. فقد تبنّت الجماعات الإسلامية شعارات شعبوية بطريقة تدغدغ المشاعر مثل “الإسلام هو الحل”، واستخدمت خطاباً قريباً من الخطاب التقليدي سواء من ناحية الشكل عبر لغة تقليدية سهلة الفهم، أو من ناحية المضمون القريب من هموم الناس مع توظيف المشاعر الدينية باللعبة السياسية.

هذا لا يعني أنّ التيارات “الحداثية” لم تمارس الشعبوية في وقت من الأوقات ونجحت مرحلياً، مثل الخطاب القومي في الاعتداد بالكرامة العربية والوحدة والتحرُّر من الاستعمار، ومثل الخطاب الاشتراكي في العدالة الاجتماعية والدفاع عن حقوق الفقراء، وقبلهما الخطاب الليبرالي في الدفاع عن الحريات الخاصة والعامة. لكن هذه التيارات الحداثية كان لها طوال العقود الثلاثة الماضية خطاب نخبوي ابتعد عن اللغة الشعبية.

ورغم أنّ الإسلاميين استخدموا اللغة الشعبوية، فإنّ أغلبهم لم يطبقها، بل استلهموا الطرح الليبرالي بطريقة براجماتية (نفعية). والبراجماتية أعطت الجماعات الإسلامية قدراً هائلاً من المرونة والفاعلية.. خذ مثلاً، ليبيا التي يرأسها الإسلامي مصطفى عبد الجليل، أصدرت الأسبوع الماضي قانوناً يحظر الأحزاب والكيانات السياسية التي تبنى على أساس ديني.. المبرّر معروف “لكي لا يستغل الدين بالعمل السياسي”. أليس هذا ما يقوله الليبراليون فضلاً عن العلمانيين!؟ ومصطفى عبد الجليل سبق أن أعلن ليلة سقوط النظام السابق بطريقة احتفالية تطبيق الشريعة الإسلامية أمام جماهير غفيرة، لكن عندما غضبت بعض المؤسسات الغربية، قام خلال ساعات بتوضيح عدم صحة ما فهم عنه في سياقه السليم.. ومصطفى عبد الجليل كان بالأساس وزير عدل في نظام القذافي!

وفي تونس دافع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي عن الدستور التونسي الجديد حين لم تدرج مادة تنص على أنّ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، قائلاً: “الشعب التونسي متحد بخصوص الإسلام ولا يريد إدراج تعبير آخر يؤدي إلى انقسام الشعب”.. لنتصوّر ردّ الفعل لو جاء هذا الكلام من زعيم ليبرالي؟ بينما أغلب دساتير الدول العربية التي يُقال عنها علمانية، تتضمّن أنّ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي أو المصدر الرئيسي للتشريع!

ويتنقّل بعض الإسلاميين الحركيين ببراجماتية مفرطة كأنّ السياسة لعبة جمباز! خذ مثال اللواء عادل عبد المقصود الذي وصل لمنصب مساعد وزير الداخلية في النظام المصري السابق، صار مؤسساً ورئيساً لحزب الأصالة السلفي في النظام الجديد. مثال آخر، ما ذكره نائب رئيس حزب النور (السلفي) أشرف ثابت من أنّ مشروع حزبه يشمل ثلاثة محاور أولها الإصلاح التشريعي الذي يؤدى إلى إصلاح الحياة السياسية وثانيها الإصلاح الأمني ثم الإصلاح الاقتصادي؛ ولم يتطرّق إلى تطبيق الشريعة أو القضايا الأخلاقية كإغلاق الحانات والرقابة على الإعلام.. وكانت اللغة التي تحدث بها لا تكاد تختلف عن الطرح الليبرالي!

لا يكفي الحركات أن تتبنّي الشعبوية والبراجماتية. ثمة عاملان أساسيان هما - في تقديري - ما جعل الحركات الإسلامية المشتغلة بالسياسة تتفوّق على غيرها، مع عامليْ الشعبوية والبراجماتية؟ هما العمل الخيري والتنظيم السياسي اللذان ضخا عبر سنوات في الحركات رصيدها التراكمي.

الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة انخرطت بالعمل الخيري واقتربت من الشرائح الشعبية، وأسست تنظيماتها في ظل هامش حرية تتحرك به عبر غطائها الديني، ولا يتسنّى للحركات السياسية الأخرى مثل هذا الهامش. فلقد شكّل الانحسار الشعبي للمشروع القومي بعد نكسة حزيران فراغاً تمدّدت فيه الجماعات الإسلامية وتيارات أخرى كالحركات اليسارية، لكن نتيجة قبضة الأجهزة الأمنية على جميع الحركات السياسية المدنية، استفادت الحركات الإسلامية من المظلّة الدينية التي يصعب على الأجهزة الأمنية قمعها آنذاك. ظهر ذلك بوضوح في الثمانينات حين استفادت هذه الحركات من مؤسسة المسجد للتجمُّع واللقاء كمظلة حماية من الأجهزة الأمنية، واستفادت من الزكاة والصدقة كمصادر تمويل شرعية. المسجد أعطى مجالاً تنظيمياً ضابطاً للحركة السياسية الإسلامية، فيما التبرعات أعطت زخماً تمويلياً وحرية في الحركة المالية بعيداً عن بيروقراطية الدولة وهواجسها الأمنية التي تواجه الحركات الأخرى.

في كل الأحوال، إنّ أهم عامل ظاهري للفوز في الانتخابات الأولى بعد سقوط النظام القديم، هو الشعبوية، لكن الاعتماد على الشعبوية مفعوله سريع الزوال.. ولنتذكّر قبل سنوات كيف أتى الزعيم الروسي بوريس يلتسن بشعبية عامرة أثناء انهيار الاتحاد السوفييتي، ثم انتهى به المطاف بعد ثماني سنوات أن يقدم استقالته خائباً ومعتذراً بعد تدنِّي شعبيته إلى اثنين في المئة.. ويسجل التاريخ عهده بأنه فترة مظلمة في روسيا الحديثة، حيث انتشر الفساد وانهار الاقتصاد مخلفاً أزمات سياسية واجتماعية طاحنة. بالمقابل فإنّ تشرشل الذي قلنا إنه خسر الانتخابات الأولى بعد الحرب عاد من جديد لرئاسة الحكومة البريطانية..

الشعبية السياسية للجماعات الإسلامية يمكن أن تكون مؤقتة سرعان ما تزول، إذا اعتمدت على الشعارات والبراجماتية المفرطة، وسرعان من يتم استنزاف الرصيد الذي تراكم من العمل الخيري والتنظيم السياسي، فالعمل في المعارضة ليس كالعمل في النظام، وتجارب غيرهم التي كانت بعضها أكثر شعبية ماثلة أمام العيان، وبالأخص حقبة القومية العربية وزخمها الجماهيري الكاسح في الخمسينات والستينات. والناس المحايدون الذين انتخبوا بناءً على الثقة الشخصية في المتدينين، قد يتغيّرون يوماً وينتخبون بناءً على الكفاءة المهنية في القادرين على الإنجاز لتحسين أحوالهم المعيشية.
بقلم / الدكتور عبدالرحمن الحبيب
http://www.al-jazirah.com/20120430/ar2d.htm
التوقيع: نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
رد مع اقتباس